Banner 468

الأربعاء، 14 فبراير 2018

مختارات من مذكرات السلطان عبد الحميد الثاني

هذا الموضوع يوجد في صورة ملف pdf لتحميل الملف:
http://bit.ly/2BXeGey

المقدمة:

ولد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني في 21 سبتمبر سنة 1842م، والده هو السلطان عبد المجيد الأول، توفيت والدته وهو في سن صغيرة ورعته زوجة والده وكانت تحبه ورعته كابنها واعتبرها أمه لا فرق بينهما.
بويع للخلافة في 31 أغسطس سنة 1876م. استلم السلطان عبد الحميد الثاني الدولة العثمانية في ظروف صعبة حتى أن الغرب كان يطلق عليها مصطلح "الرجل المريض".
كان 
يحكم قبله عمه السلطان عبد العزيز وقام بتطوير الأسطول والجيش العثماني واهتم بالتعليم. تم خلع السلطان عبد العزيز سنة 1876م تنفيذاً لرغبة إنجلترا وانتقاماً منه من بعض رجال الدولة الذين أبعدهم عن مناصبهم كـ حسين عوني باشا قائد الجيش وكان ماسونياً يعمل لصالح انجلترا، توفي عبد العزيز في منفاه بعد خلعه بأيام قيل وقتها أنه انتحر لكن اتضح فيما بعد أن جمعية تركيا الفتاة دبروا مؤامرة لقتله. حيث تم قتله خوفاً من عودته للسلطة لشعبيته الكبيرة، ووضعوا مراد الخامس في الحكم بعده وهو أخو السلطان عبد الحميد الثاني وكان ماسونياً سيحقق مطالب جمعية تركيا الفتاة. لكن جُن مراد وفقد عقله بعد حكمه بثلاثة أشهر بعد أحداث موت عمه السلطان السابق عبد العزيز. اضطربت البلاد لعزل وموت سلطان وجنون الآخر في أشهر قليلة، وحدث فراغ في السلطة.

استلم السلطان عبد الحميد الثاني الحكم على غير ما خططت له تركيا الفتاة، واستمر حكمه للدولة العثمانية 33 عاماً، أثناء حكمه دُبرت له محاولتين لقتله باءوا بالفشل، أحدهما دبرها علي سعداوي أحد المعارضين، والأخرى دبرها الأرمن، كان كثير من كبار رجال الدولة يعملون لصالح فرنسا وانجلترا والماسونية. استلم عبد الحميد الثاني البلاد وعليها قدر كبير من الديون والأزمات الداخلية والخارجية. الإنتاج المحلي لا يحقق الاكتفاء الذاتي، كثير من المنتجات تستورد من أوروبا، الطرق صعبة وغير ممهدة وبالتالي التخابر ووصول الأخبار يأخذ أيام وأسابيع طويلة. ضعف الجيش لانقسامه قسم يؤيد الأسرة الحاكمة وقسم منه يمثل متمردون عليها. كان هناك خلافات كبيرة مع روسيا، وتمرد في البوسنة والهرسك وفرض حصار على الجيش العثماني في منطقة الجبل الأسود واضطرابات في جزيرة كريت وإعلان الصرب الحرب على الدولة العثمانية. 

في أول حكمه طالب الشعب بتطبيق الديمقراطية وإدخال نظام مجلس الوزراء على الحُكم، كان الشعب يثق في مدحت باشا ويطيع رغباته فعينه السلطان عبد الحميد ككبير الوزراء ولم يكن قادراً على مخالفة طلبات الشعب في تلك الظروف. أصدر السلطان عبد الحميد الثاني المرسوم السلطاني (دستور) الذي وضعه مدحت باشا وفيه بند تطبيق الديمقراطية. وكانت إرادة مجلس الوزراء والشعب الدخول في حرب مع روسيا لم يكن عبد الحميد موافقاً على ذلك بقياس قدرات الجيش العثماني بالجيش الروسي وانقسام الجيش وظروف الدولة في ذلك الوقت، لكن مدحت باشا أصر على ذلك والضغط الشعبي الذي تسبب فيه أجبر السلطان على دخول الحرب، قامت الحرب الروسية – العثمانية سنة 93 رومية حيث بدأت الحرب في 24 أبريل سنة 1877م. أقنعت إنجلترا مدحت باشا أن أوروبا ستقف في صف الدولة العثمانية ضد روسيا لكن ذلك لم يحدث ووقفت الدولة العثمانية وحدها أمام روسيا. وكما ظن السلطان عبد الحميد الثاني انهزم الجيش العثماني وانتهت الحرب بخسارة أراضي تابعة للدولة العثمانية وتهجير مليون مسلم من بلغاريا إلى إسطنبول بالإضافة إلى معاهدة آيا اسطفانوس ورفض السلطان عبد الحميد الثاني تلك المعاهدة لأن فيها تنازلات كبيرة لصالح روسيا وانفصال أجزاء كبيرة من البلاد عن الدولة العثمانية، اعترض السلطان عليها مهما كانت النتائج، ووقع عليها وزير الخارجية العثماني في ذلك الوقت وهو يبكي، وبعد أربعة أشهر وعشر أيام قام السلطان عبد الحميد الثاني بإلغاء تلك المعاهدة واستبدلها بمعاهدة برلين، وأوقف الحياة النيابية إلى أجل غير مسمى. وفي هذا يعترض على الديمقراطية وأن الشعب غير مستعد لها وقال أن إرادة الشعب ذهبت بنا لمعاهدة آيا اسطفانوس أما أنا فقد حققت مقررات مؤتمر برلين.

اتضح فيما بعد أن مدحت كان ماسونياً يعمل لصالح بريطانيا وعزله السلطان عبد الحميد الثاني فاعترضت إنجلترا بشدة على ذلك، سافر مدحت بعد عزله إلى إيطاليا، ثم تبين تورطه في قتل السلطان عبد العزيز فاحتمى بالسفارة البريطانية والفرنسية، وحكم عليه وعلى المتورطين معه بالإعدام لكن خفف السلطان عبد الحميد الحكم إلى السجن المؤبد، وسُجن في الطائف مع محمود جلال الدين أحد المتورطين في القتل أيضاً وحاولت الدول الأجنبية تهريبه لكن باء ذلك بالفشل وقتلا في السجن بعد ذلك. واتُهم السلطان عبد الحميد الثاني بقتله وقد برء نفسه في مذكراته من هذه التهمة حيث ذكر أنه غير مستفيد شيئاً من قتله ويقدر خدماته للدولة وخفف عنه حكم الإعدام وطلب معاملته في السجن معاملة كريمة، وأنه برئ من تلك التهمة وسيقف أمام الله غير متهم بشيء من ذلك وأنه عفا عن قتل عمه لكن لا يمكنه العفو عن خيانة الدولة والعمل لحساب دول أجنبية وتقاضي أموال من الأجانب وقال "لعل الله يحاسبني لأنني عفوت عنه وخففت عنه حكم الإعدام وأنا مستعد لجزاء الله على ذلك".

يذكر السلطان عبد الحميد الثاني أن أولئك الماسون أعضاء تركيا الفتاة كانوا يشربون الخمر ويمارسون العربدة ويتبعون الغرب ويقلدونه ويعملون لصالحه وينقمون الحضارة الإسلامية والعثمانية. بدأت جماعة "تركيا الفتاة" في الظهور من سنة 1860م وكان غرضهم إدخال الحكم البرلماني الأوروبي على الحكم العثماني وتنفيذ مصالح أوروبا، ثم سميت بجمعية الاتحاد والترقي وكان هدفها إسقاط السلطان عبد الحميد الثاني.

قابل السلطان عبد الحميد الثاني مخاطر كثيرة، حيث قامت ضده حملات تشويه ومحاولات لقلقة البلاد وتمرد في عدة مناطق، ومحاولات للاغتيال، وتوظيف عملاء في كبرى محاور الدولة، وجمعيات ماسونية تدبر وتخطط في الخفاء وتتقاضى الدعم المادي من دول أجنبية، وديون تثقل الدولة وشعب لا يريد أن يعمل ودولة منهكة تواجه الدول القوية وحدها، ودولة كبيرة مترامية الأطراف من شعوب وثقافات وديانات وولاءات مختلفة.

أسس السلطان عبد الحميد الثاني المدارس والجامعات واهتم بتعليم الفتيات وأرسل البعثات للدراسة في أوروبا، وأنشأ خط حديد الحجاز وبغداد، وأدخل التلغراف الذي ساعد كثيراً في نقل الأخبار. 

لم يكن السلطان عبد الحميد الثاني من مناصري الحرب فيقول أن حتى المنتصرين في الحرب يخسرون، وكانت سياسته التي أخفاها وكتمها حتى ذكرها في مذكراته أنه كان يحاول الحفاظ على تماسك الدولة وينتظر اختلاف الغرب وتحاربهم فيما بينهم، وقد حدث ما تمناه السلطان عبد الحميد بقيام الحرب العالمية الأولى سنة 1914م لكن للأسف كان وقتها عُزل عن الحكم وعملت جمعية الاتحاد والترقي فيما بعده على إضعاف وتدمير الدولة العثمانية، فلما اختلف الغرب كانت الدولة العثمانية ممزقة من الداخل، ويتحدث عن ذلك بحسرة في مذكراته.

عُزل السلطان عبد الحميد الثاني في 27 أبريل 1909م، ونصبوا أخوه محمد رشاد في الحكم وتم ذلك بمؤامرة من جمعية الاتحاد والترقي الماسونية حيث حدثت مظاهرات من أنصار الاتحاد والترقي يطالبون فيها بالحرية وتطبيق نظام مجلس الوزراء وعينوا وزراء تابعين لهم، وحدث اضطراب بين الوزراء، بعدها حدث اضطراب في اسطنبول واشتباكات واغتيالات قُتل فيها بعض عسكر موالين لجمعية الاتحاد والترقي عرف هذا الحادث باسم 31 مارت (31 مارس)، على إثر ذلك خرج الجيش الموالي للاتحاد والترقي من سلانيك إلى إسطنبول بزعم حماية السلطان عبد الحميد الثاني وتطبيق الشريعة لكنهم فرضوا الأحكام العرفية في البلاد ونهبوا قصر السلطان وجاءوا لعزل السلطان عن الحكم. كان الجيش الأول الموالي لعبد الحميد الثاني على استعداد لمنع تلك القوات من دخول إسطنبول والقضاء عليها لكن السلطان رفض ذلك. دخل قصر يلديز لجنة مكونة من 4 ليسوا عرباً ولا أتراك! هم اليهودي إيمانويل قراصو والأرمني آرام والجورجي عارف حكمت والألباني أسعد طوطاني! وكان إيمانويل قراصو يهودي أسباني وكان الأستاذ الأعظم لمحفل مقدونيا ريزولتا الماسوني وقد لعب دوراً هاماً في احتلال إيطاليا لليبيا كما اشترك من قبل في مباحثات مع السلطان عبد الحميد الثاني للتخلي عن فلسطين أو تأجيرها لليهود لكنه رفض ذلك تماماً، فانتقم منه فيما بعد.

من اليسار إلى اليمين: عارف حكمت، إيمانويل قراصو، أسعد طوطاني، آرام، غالب باشا (تولى منصب شريف مكة فيما بعد).

هناك أحداث رئيسية تسبب في عزل السلطان عبد الحميد الثاني عن السلطة أولها رفضه منح اليهود أي أجزاء من فلسطين ولا حتى بالإيجار، ثانيها عدم مطاوعته للقوى الغربية والماسونية، ثالثها اكتشاف البترول في الحجاز فقد تم عزله بعد ذلك الاكتشاف بأشهر قليلة، وقد ذكر ذلك في مذكراته.

تم نفي السلطان عبد الحميد الثاني إلى سلانيك التي أغلب سكانها من اليهود وأسكنوه في قصر آلاتيني الذي يملكه يهودي وخرج من قصره مع أهل بيته بما عليهم من ملابس دون أن يأخذوا شيئاً معهم. وعاشوا حياة صعبة في قصر آلاتيني الغير مؤهل لحياة كريمة ويذكر السلطان عبد الحميد الثاني كيف كان حريصاً على أن يؤمن لمعارضيه في السجون حياة كريمة ويلبي مطالبهم وكيف يتعاملون معه بالمقابل. فيما بعد أجبره اليهودي جاويد وكان ماسونياً من الدرجة 33 -تولى وزارة المالية- على التنازل عن ممتلكاته البسيطة في البنوك الأجنبية وهددوه وأسرته بالقتل لو لم يفعل ذلك، وكانت تلك المدخرات بسيطة أنفق السلطان عبد الحميد الثاني أغلبها لصالح الدولة العثمانية وما بقي منها جعله لضمان مستقبل أبنائه وأسرته. قام بكتابة مذكراته في سرية وبصعوبة شديدة حيث كان يمليها على أحد الحرس المكلفون بحراسته في منفاه بقصر آلاتيني فلما اكتشفوا ذلك أبعدوه عنه. ومنعوا عنه الجرائد وعزلوه عن أخبار الدولة، ثم لما تورطوا ورأوا الهزيمة جاءوه مستشيرين بعد فوات الأوان. اتحدت أربعة دول اليونان وبلغاريا والجبل الأسود والصرب لمحاربة الدولة العثمانية بعد عزل السلطان عبد الحميد الثاني فيما سمي بحرب البلقان سنة 1912م. ونقلوا السلطان ومن معه من سلانيك إلى قصر بَيْلَرْبي في اسطنبول وحزن السلطان على ما آلت إليه البلاد حزناً شديداً حتى توفي في 10 فبراير سنة 1918م.

كان أخوه محمد رشاد ضعيفاً حَكَم حُكماً صورياً وكان الحاكم الفعلي للبلاد جمعية الاتحاد والترقي ومناصروها من الجيش، ومنذ عزل السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1909م إلى سنة 1924م حَكم ثلاثة من آل عثمان شهد حكمهم انهيار الدولة العثمانية حتى انتهى بإلغاء الخلافة الإسلامية.

بعد وفاة السلطان عبد الحميد الثاني، رثاه رضا توفيق من أعضاء جمعية الاتحاد والترقي ومن أكبر المعارضين للسلطان عبد الحميد فقال: "عندما يذكر التاريخ اسمك يكون الحق في جانبك ومعك أيها السلطان العظيم. كنا نحن الذين افترينا دون حياء على أعظم سياسيي العصر. قلنا إن السلطان ظالم وإن السلطان مجنون قلنا لا بد من الثورة على السلطان وصدّقنا كل ما قاله لنا الشيطان وعملنا على إيقاظ الفتنة، لم تكن أنت المجنون بل نحن ولم نكن ندري. علقنا القلادة على فتيل واه. لم نكن مجانين فحسب بل كنا قد عُدمنا الأخلاق، فلقد بصقنا أيها السلطان العظيم على قبلة الأجداد".

عن سبب كتابة هذه المذكرات يقول السلطان عبد الحميد الثاني: "لكني أرى اليوم الكارثة التي لحقت بالبلاد. جيشنا يتراجع منهزماً نحو العاصمة. نفقد كل أراضي الدولة بشكل لا نستطيع استردادها مرة أخرى ولهذه الهزيمة مسببوها، من خونة ومذنبين وأذناب. إنهم يدينونني لينقذوا أنفسهم من عدالة التاريخ وعدالة الأمة. يقولون هذا الحريق أشعله عبد الحميد. إني أكتب لأبناء الأمة الذين يختلجون بمرارة فقدان دولة عظيمة. أكتبه كي يتبصروا بكل شيء ويقوِّموا كل شيء جيداً لكي يستطيعوا التفكير على أتم وجه دونما انتظار لحُكم التاريخ".

اتسمت شخصية السلطان عبد الحميد الثاني بالهدوء والحذر. كان معتزلاً حريصاً لا يثق بأحد. ووصفه أعداؤه بأنه كان داهية ذكياً ملتزماً بدينه عدواً لليهود، قال عنه جمال الدين الأفغاني: "لو وُزن مع أربعة من نوابغ رجال العصر، لرجحهم ذكاءً ودهاءً وسياسةً. وأعظم ما أدهشني ما أعد من خفي الوسائل، وأقصى العوامل، كي لا تتفق أوروبا على عمل خطير في الممالك العثمانية".

في مذكراته ذكر السلطان عبد الحميد الثاني تعاون جمال الدين الأفغاني مع انجليزي اسمه بلنت لإسقاط الخلافة العثمانية، وبلنت هذا هو ويلفريد سكاون بلنت مستشرق انجليزي مسيحي كان يعمل لصالح الحكومة البريطانية وكان يقدم توصيات بناء على دراساته لتنفذها الحكومة البريطانية وتلك التوصيات نُشرت فيما بعد بكتاب "مستقبل الإسلام" وفي ذلك الكتاب ذُكرت تلك الخطة التي قصدها السلطان، فقال بلنت عن السلطان عبد الحميد الثاني في ذلك الكتاب أنه لم يكن شهواني محب للملذات ولا أبله ولا فاتناُ، ذو طلعة لا يمكن للإنسان إلا أن يُعجب بها، يمثل الحنفية المتشددة، صاحب علم، محباُ للجغرافيا والتاريخ، وعلى الرغم أنه لم يكن عالماً إلا أنه كان لديه شئ من المعرفة الدينية. وذكر أنه كان محافظاً على الصلوات في حياته الخاصة، وكان يجاري عادة السلاطين الأتراك في الزواج، وكان راعياً للدراويش وصناع الخوارق والأولياء ولا يألوا جهداً في البحث عن هؤلاء واستقبالهم استقبالاً طيباً، وفي الحُكم يلتزم التزاماً صارماً بالشرع في كل ما يقوم به من أعمال، وفي حالة الشك يستشير دائماً المفتي أو شيخ الإسلام، وهو دوماً يكشف عن عزمه في مقاومة المطالب الأوروبية عندما تتعارض مع الشريعة، وكان له من الشجاعة قدر مكنه من القبض على مدحت باشا ومحاكمته على مسمع ومرأى من أوروبا التي كانت تحميه، مما أكسبه تأييد كبير في العالم الإسلامي حتى كان مسلمي الهند يدعون له في مساجدهم وكسب تأييداً في تونس وشمال أفريقيا الذين كانوا يعارضون تماماً الانضمام للواء أي سلطان عثماني، وسمى بلنت عبد الحميد ومؤيديه بالجماعة الرجعية لأنه كان ملتزم بالشريعة والمذهب الحنفي. وينصح بلنت بريطانيا بالعمل بطريقة شرعية لتوجيه مسار الأحداث للمصالح البريطانية. وذكر أن حزب تركيا الفتاة يناصب العداء لعبد الحميد وإذا وصل للسلطة سيقوم بفصل الدين عن الدولة كما فعلت أوروبا في تعاملها مع البابوية. وقد قمت من قبل بعمل تلخيص لكتاب "مستقبل الإسلام" يمكن تحميله من الرابط:

كتب السلطان عبد الحميد الثاني مذكراته في جزئين. جزء وهو حاكم للدولة العثمانية قبل عزله، وجزء بعد عزله بدأ في إملائه من أول مارس سنة 1917م وانتهى منه في 8 إبريل من نفس السنة. طبع الجزء الأول في كتاب بعنوان "السلطان عبد الحميد الثاني مذكراتي السياسية" مؤسسة الرسالة الطبعة الثالثة، والجزء الثاني في كتاب بعنوان "مذكرات السلطان عبد الحميد الثاني" ترجمة د. محمد حرب طبعة دار القلم – دمشق، وهذه هي طبعات المذكرات التي اعتمدت عليها في النقل بهذا العمل. يمكن تحميل هذه المذكرات من الروابط التالية:

وقد جمعت في هذا الملف مواضيع مختلفة من الجزئين تحت عناوين في عدة قضايا تناولها السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله. وجمعت تحت العنوان الواحد نصوص مختلفة من الجزئين بغرض تناول أهم ما ذُكر في القضية الواحدة. ونقلت كتاباته بنصه وما كتبه قبل عزله بينته باللون الأسود وما كتبه بعد عزله جعلته باللون الأزرق وما أضفته من كلامي للتوضيح جعلته بين قوسين ( ). تغاضيت عن كثير من التفاصيل والأسماء في تلك المذكرات فلم تشتمل هذه المختارات على كل النقاط التي اشتملتها المذكرات، وبالتالي لا تغني عن الاطلاع على المذكرات الأصلية حيث أني انتقيت مواضيع محددة أردت بها إظهار الخيوط الرئيسية التي قد تفيدنا لإدراك الماضي وبالتالي معرفة الحاضر والإفادة في المستقبل، ليكون هذا العمل بمثابة إلقاء الضوء على بعض عبرات من التاريخ.
                              
مختارات من مذكرات السلطان العثماني عبد الحميد الثاني رحمه الله تعالى


عوائق التطور:

(كان يريد السلطان عبد الحميد الثاني إنشاء خط حديد في بغداد يصل إلى سوريا وبيروت والإسكندرية وحيفا. لكنه يقول أن الأنكليز يبذلون ما في وسعهم للحيلولة دون إتمام هذه المشاريع. وفي ذلك يقول):

لا سبيل لنا إلا التغيير الجذري في نظامنا المالي، وكشف مصادر أخرى للموارد قد يكون مفيداً. ولكن قبل كل شيء ينبغي على الدول القوية أن تعترف لنا بحق العيش بسلام واستقرار كيلا نصرف موارد الدولة دون جدوى للقضاء على المؤامرات التي يحيكها الأجانب. الشئ الذي يقودنا إلى الهاوية أكثر من غيره هو مؤامرات الدول الكبرى لقد صرفنا الملايين للقضاء على هذه المؤامرات وكان الأجدر بها أن تصرف على مشاريع حيوية نستفيد منها كما صرفنا جل أوقاتنا وطاقاتنا دون جدوى فلم يبق لنا شيء ندخره لغدنا في التطور والتقدم. لو اعترفت لنا هذه الدول بعشر سنوات من الاستقرار لحظيت دولتنا بالتطور الذي حظيت به اليابان. فاليابانيون بعيدون عن مخالب أوروبا يعيشون في أمان واطمئنان أما نحن فقد نصبنا خيامنا على ملتقى الطرق بين الوحوش الأوروبية الكاسرة.

القوة الوحيدة التي ستجعلنا واقفين على أقدامنا هي الإسلام، إننا أمة قوية بشرط أن نكون مخلصين لهذا الدين العظيم.

إن فرض وصاية الأجانب علينا أمر مناف لكرامتنا. إن تطرف الدول الكبرى في الإجحاف بحقوقنا قد تجاوز جميع الحدود والمقاييس.

يسعى أعداؤنا إلى اقناع الناس بعدم جدوى النظام الجديد الذي وضعناه لإنقاذ البلاد من الوضع المتردي، ويعرضون علينا أسساً بديلة لإصلاحات لا حاجة لنا بها. علينا أن نمضي في تنفيذ برامجنا نحن ونسير على هدي شريعتنا الغراء إذ ليس لخليفة على هذه الأرض أن يسير إلا في هذا الطريق.

انقسام الجيش بعد تولي السلطان عبد الحميد الثاني للحكم:

انقسم الجيش الجديد على نفسه بدعوى الموالاة للأسرة الحاكمة والمعاداة لها ففقدنا حرب 93. إن نفس هذا الجيش هو الذي أسقط أخي مراداً من على العرش وكذلك أسقطني أنا. وكذلك الأسباب التي فقدنا من جرائها حرب 93 هي نفس الأسباب التي جعلتنا نفقد حرب البلقان. ليس التاريخ هو السبب بل إن السبب يكمن في تكرار الأخطاء بلا انقطاع. ولو فقدنا اليوم وطننا فذلك يرجع إلى ذات السبب أيضاً.

التلغراف:

لم تكن الطرق الداخلية في البلاد كافية. وكان التخابر يحدث بواسطة الجياد وكان تلقي الأخبار عن جيش أُرسل إلى الحدود يستغرق أياماً بل أسابيع في بعض الأحيان. سمعت ببدء استخدام واسطة التخابر المسماة بالتلغراف فتحركت فوراً واستدعيت خبيراً من بلجيكا كان اسمه جان ديكرو، وكان رجلاً من أصحاب الأعمال، وأقمتُ في القصر مركز تلغراف مجهز بأقوى الكابلات وقامت كل ولاية بنصب أعمدة التلغراف في ساحتها وركبت الأسلاك وبدأ عمل الخطوط وكان ديكرو هذا يدير هذا المركز التلغرافي. استدعيته وقلت له أنه لو علَّم رجالنا كل أعمال التلغراف بحيث يمكن أن يديروه بأنفسهم خلال ستة أشهر فإني سأمنحه نيشاناً عثمانياً وأعطيه ألفين ذهباً.

وسريعاً ما أقام جان ديكرو مدرسة في القصر وقسَّمها إلى ثلاثة أقسام، وبدأ يُلقي دروسه ليلاً ونهاراً وبعد شهرين ونصف شهر أمكنه إعداد موظفي تلغراف مستعدين بأنفسهم أن يديروا شبكة التلغراف التي تربط أهم الولايات سواء في الأناضول أم في الروملي بالعاصمة وهكذا أمكن تأمين التخابر.

مشكلة الأرمن:

الأرمن كانوا دائماً أغنياء وتقلدوا في جميع العهود أعلى المناصب الوظيفية في الدولة، ثلث الموظفين من الأرمن، ليس على الأرمن الخدمة العسكرية، ويؤدون بدل نقدي رمزي عن ذلك. إدارة الضرائب تكاد تكون منحصرة في الأرمن.

الأرمن تورطوا في العصيان بتحريك خارجي. إن الأرمن شعب محترس بطبيعته ومحب لملذات الدنيا، فلا بد أن تكون هناك بواعث وراء ثورتهم. المبشرون الأنجلوأمريكان عملوا على نشر المذهب البروتستانتي في شرق الإمبراطورية العثمانية فقاموا بأعمال استفزازية تجاه المسلمين فظن الأرمن أنهم يستطيعون القيام بنفس الدور الذي قام به أسلافهم من المبشرين، أعلن الأرمن الثورة والعصيان وامتنعوا عن دفع الضرائب وتوقعوا أن لا يلقوا جزاء ما يعملون. لكن تم القضاء على ثورة الأرمن في بيازيد سنة 1877م. استشاطت إنجلترا غضباً لذلك وهددت بتبني مشكلة الأرمن لأن هذه المشكلة تناسبها لأنها ستؤدي إلى إحداث اضطرابات في الشرق. لقد جرت مذابح لليهود في روسيا فلم تتجرأ إحدى الدول الكبرى على معاقبة إخوانهم النصارى أما إذا كان الأمر مع المسلمين فالوضع يختلف.

امتنعت الشركات الأوروبية عن تقديم القروض التجارية لرجال الأعمال في الدولة العثمانية بزعم المشكلة الأرمنية.

لم تكن للأرمن منا شكوى قط، ولكن الروس لكي يصلوا إلى آمالهم في بلغاريا ولكي يقطفوا من الإمبراطورية العثمانية قطعة جديدة لفوا الأرمن حول اصبعهم احتواء. أرسلوا جواسيسهم بصحبة قساوستهم ومعلَميهم إلى الأرمن فألبوهم علينا وانغمس هؤلاء في المغامرة.

لم يمض زمن حتى اشترك الإنجليز والفرنسيون في هذا. كانوا يريدون أن يصبحوا هم أيضاً أصحاب كلمة في القطعة الجديدة التي ستقتطف من الدولة العثمانية.

كان الفرنسيون يحمون الكاثوليك ويساند الروس الأرثوذوكس. كنت أحياناً أقف مع هؤلاء وأحياناً أخرى مع أولئك، ولكني لم أنسى قط أن كلا الفريقين من الرعايا العثمانيين، إنما جهدت أن أحول بينهم وبين تحركهم.

لم تشكل أول جمعية ثورية أرمنية في الأناضول بل في باريس، وهذا يوضح كل شيء. يعني أن رأس الفتنة كان في الخارج.

هدف الأرمن إثارة المسلمين واستفزازهم للاعتداء عليهم، ثم يقيمون العالم ويقعدونه بحيث تتدخل الدول الأوروبية لتقول إن الحياة بين هذين العنصرين المسلمين والأرمن مستحيلة ولا بد من الاستقلال الذاتي للأرمن. لم تكن هذه الفتن التي يتولى القساوسة والمعلمون والعملاء تحريكها ذات أهمية في مبدأ الأمر، فكثير من الأرمن العثمانيين لم يقابلوا هذه الأعمال بترحيب. ولما لمست الجمعيات الثورية هذا أخذت تقيم المذابح العامة لكي تجبر هؤلاء الأرمن الشرفاء من تبعتنا على مسايرتهم.

ارتدى بعض الأرمن زي الأتراك وراحوا يقتلون مواطنيهم من الأرمن الذين يحجمون عن مساعدتهم ثم يقولون: ألا ترون الأتراك وهم يقتلوننا، وأنتم حتى الآن ما زلتم بعيدين عنا؟. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى كانوا يدخلون القرى التركية ويمارسون ضد الشعب المسلم فيها مختلف أنواع القتل والتعذيب، من تلك شق الجسد بالسكين وحشوه بالبارود ثم إشعاله.

ولكي أخمد هذا النزاع بين الأرمن والمسلمين أرسلت الجيش بقيادة المشير زكي باشا إلى هذه المنطقة للعمل على سحق التمرد.

هرع سفراء الدول الكبرى الواحد تلو الآخر إلى القصر قائلين إن من الظلم ترك هؤلاء الأرمن المساكين. وكان السفير الإنجليزي على وجه الخصوص يريد تشكيل لجنة تحقيق فوراً وقال بإرسال ملحق عسكري إنجليزي إلى مكان الواقعة ليقوم بدور الريادة لهذه اللجنة. حينئذ قلت لجميع السفراء ولا سيما السفير الإنجليزي بلهجة حادة إن هذه مسألة أمن داخلي وإن الجيش يطهر هذه الأماكن من المجرمين، ثم أضفت قائلاً ولن أسمح بإرسال ملحقين عسكريين فإن ظهور ضابط انجليزي في هذه المنطقة سيثير النزاع من جديد بين الشعب الذي هدأت أحواله. خرج السفير الإنجليزي من عندي والحيرة والدهشة تغلبانه.

إن سكوت الدول الكبرى على الفظائع التي يرتكبها الإنكليز في ظفار وصمة عار في جبين هذه الدول ففي هذه الحادثة قام القنصل الإنجليزي ويلسون في بوشير بعمل وحشي يعجز اللسان عن وصفه فبالرغم من تحذيرات السلطات الإدارية العثمانية في تلك المنطقة قامت السفن الإنجليزية بضربها فدمرت عدداً كبيراً من البيوت وقتلت مئات النساء والأطفال والشيوخ. إن الانجليز الذين أقاموا الدنيا وأقعدوها خلال ثورة الأرمن لا يتورعون الآن وهم قوم متحضرون عن أن ينزلوا أبشع الضربات في تلك المنطقة، أما الدول الكبرى فقد التزمت جانب اللامبالاة، ويفهم مما تقدم أن معاني الرحمة قد انعدمت في قلوب الأمم النصرانية.

لا يزال الأوروبيون كلما أرادوا الحط من قيمتنا أو الإساءة إلينا يستعملون كلمة تعصب المسلمين الشديد ويقصدون به ما يدعونه بأعمال القمع الدموية، إن حب الوطن عند النصارى يصبح أعمال قمع عندنا وكأنهم هم وحدهم يحبون أوطانهم. وإذا كان النصارى يحبون أوطانهم فنحن نحب ديننا الذي يأمرنا بحب الوطن هذا هو التعصب الذي ينسبونه إلينا. إن كل مسلم مؤمن يعتز بدينه، وقد أمر الإسلام بالمساواة بين المسلمين وبحماية الضعيف وحب الخير والابتعاد عن الشبهات والأساطير والخرافات. إننا قوم أعزنا الله ورفعنا بهذا الدين.

سيرى المراقب المحايد أن المسلمين هم أرحم قلباً من نصارى بلاد الشرق. ها هم الأسبان وقد نشروا الرعب وفجروا حمامات الدم في كافة أنحاء أسبانيا. وها هم الفرنسيون وقد ارتكبوا الفظائع في الجزائر. وها هم الإنجليز وقد قضوا على ثورة الهند وها هي بلجيكا في الكونغو وروسيا وقد أعملت السيف في رقاب السيبيريين. أفلا يرون إلا العثمانيين وقد عيل صبرهم من جرائم الأرمن جزاء على الإحسان الذي لقوه من الأتراك في بلاد الأتراك. أفي الأمر عجب إذا قام المسلمون للدفاع عن أنفسهم؟ لا تريد الدول الكبرى أن تفهم أن الأرمن قوم عصاة حملوا السيوف والأسلحة للهجوم علينا. ولا تريد أن تعترف بأننا نحن أصحاب هذه الأرض وسادتها بل تسعى في كل مرة إلى إزعاجنا بطلب الامتيازات وبالمزعجات الأخرى حتى الحقوق التي اعترفت بها هذه الدول لإمارة موناكو لم تعترف بها للدولة العثمانية. إن الحملات الصليبية على الدولة العثمانية لا زالت مستمرة تحت أسماء وعناوين شتى.

إن أمل الأرمن في إنشاء دولة مستقلة لا يعدو كونه حلماً من أحلام اليقظة إنهم منقسمون إلى أرثوذوكس وبروتستانت وكاثوليك والصراع بين هذه المذاهب لم يهدأ يوماً فكيف يمكنهم أن يؤسسوا دولة مستقلة؟ إن مليوناً من الأرمن تابعون لروسيا ومليونين لإيران ومليوناً ونصف للدولة العثمانية. إن التاريخ يشهد أن صفات الأرمن لا تخولهم تأسيس دولة بمفردهم وإبقائها على وجه الأرض.

يبدو أن الصحف تبحث عن مواضيع، إذ تكتب عن كل شيء بغض النظر عن صحته أو كذبه، فالمراسلون يكتبون عن أوضاع كردستان وفق وجهات نظر الأرمن، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء الخروج من بيوتهم المريحة في اسطنبول.

يجب علينا أن نقوي صلاتنا بالبلدان الإسلامية وأن يكون التقارب أحسن مما هو عليه الآن ولا أمل لنا بالمستقبل إلا بالوحدة، فإن بقاء الوحدة الإسلامية يعني بقاء إنجلترا وفرنسا وروسيا وهولندا تحت نفوذنا، حيث أن كلمة واحدة من الخليفة تكفي لإعلان الجهاد في البلدان الإسلامية الواقعة تحت سيطرة هذه الدول مما يؤدي إلى وقوع الكارثة بالنصارى. ولا بد أن يأتي يوم يقوم فيه المؤمنون قومة رجل واحد ويحطمون أغلالهم.

فلسطين:

لن يستطيع رئيس الصهاينة هرتزل أن يقنعني بأفكاره.

وُلِدت في أمريكا دولة فتية قوية وكانت إسبانيا قد أُخرجت من مستعمراتها. وانتظم يهود العالم وسَعَوا عن طريق المحافل الماسونية للعمل في سبيل الحصول على الأرض الموعودة! وجاؤوا إلي بعد فترة وطلبوا مني أرضاً لتوطين اليهود في فلسطين مقابل أموال طائلة وبالطبع رَفضت.

الكسل والخمول في الشعب:

ليس هناك من يريد أن يعمل ولا أن يعلم، لم يستطع الخبراء الأوربيون الذين جئنا بهم أن يعملوا شيئاً حيال هذه الظواهر، أينما حلوا وجدوا هذه التصرفات اللامسؤولة التي حطت من عزيمتهم فأُخلدوا أخيراً إلى الدعة والراحة كباقي الناس. لقد أصبح من المستحيل إنقاذ الأمة من القنوط الذي وقعت فيه فلا أحد يرضى أن يضحي براحته ولا أن يفقد شيئاً من رغد عيشه. ليس من أحد يفكر في دفع عجلة التجارة والصناعة إلى الأمام. السادة عندنا ليست عندهم أية رغبة في التجارة أبداً.

إن صفة اللامبالاة قد ترسخت في كافة طبقات الشعب وأصبحت عادة من عاداته وقد تكون هذه العادة سبب جميع مصائبنا هناك الكثير ممن يجدون السعادة في الكسل والقعود فيسلمون القياد لهذه السعادة.

على رجال البلاد أخص منهم الأساتذة والعلماء أن يعمدوا إلى الناشئة لتخليصها من البطالة وهي اللذة الضارة وحضها على العمل من أجل الوطن والأمة فإن لم نستطع التغلب على الارتخاء المتأًصل فينا فكيف يمكننا إنقاذ امبراطوريتنا.

إن أساس الأزمات عندنا نابع من قعود الرجل العثماني عن العمل والإبداع لقد تعود أن يبقى سيداً يأمر غيره بقضاء حاجاته، فالمهم عنده أن يعيش وأن يستمتع بملذات الحياة.

فلماذا لا يفكر العثماني في أن يصبح تاجراً كبيراً أو صناعياً مبدعاً يمكنه أن يتخذني قدوة في العمل. إنني أمارس مهنة النجارة أليس من العيب أن يجهلوا هذه الفنون وهذه الصناعات؟ من الضروري أن نسعى إلى الخلاص من الحالة التي نحن فيها.

الماسون:

للفارماسون عندنا تصرفات مزعجة يحاولون بحماس زائد نشر أفكار تجددية لا يفهمها الناس إذ الأغلبية عندنا لا تأبه بالأفكار التحررية. والذين يميلون إلى التعاون مع هؤلاء حفة من الناس بقيت خارج البلاد ردحاً من الزمن فانقطعت عن جذورها وتثقفت ثقافة أوروبية سطحية براقة. هذا الصنف من الناس عندما يعود إلى بلده يجهل ما ينتظره منه شعبه فيعمل على نشر الأفكار الغربية في سبيل جعل تركيا دولة حضارية. الشئ الوحيد الذي استطاعوا تحقيقه هو بذر الشقاق والعصيان في البلاد وصفوف الجيش دون أن يدروا أنهم يعملون لحساب إنكلترا التي تذرعت بنشر الأفكار التحررية في إمبراطوريتنا بغية إضعاف قدراتنا وأشد ما يؤلمني أن يقوم هؤلاء المضللون من الأتراك بالتعاون مع اليونانيين والبلغار في سبيل إزاحة "المستبد" عن الحكم.

انقسم الجيش إلى فئتين كل فئة تتحفز لضرب الفئة الأخرى لم تبق لنا إلا وسيلة واحدة لإحباط مؤامرات السياسة الإنجليزية وهي أن أقوم على رأس هؤلاء الثوار فأعلن الدستور بنفسي وأتظاهر باتباع سياسة الانجليز، فهذا هو الطريق الوحيد لإفشال مؤامراتهم وغداً سيفهم المعجبون بأفكارهم الثورية إلى أي الطرق المهلكة ستؤدي بهم هذه الأفكار. آمل أن يتحد جميع العثمانيين ولو في آخر لحظة للعمل على بقاء دولتهم والسير على هدى دستورهم المقدس القرآن الكريم مؤمنين به ممتثلين لأوامره وإلا فالمصير الأسود ينتظرنا حيث تتأهب الدول النصرانية لتمزيق أشلائنا وتقاسم الممالك العثمانية فيما بينها.

(كان يتم اختطاف الأجانب من قبل قطاع الطرق لصناعة أزمات مع الدولة العثمانية والدول الأجنبية ويتهم السلطان عبد الحميد الثاني إنجلترا بهذا الاختطاف حيث يقول): هذه جرائم يقوم بها الروم علينا أن نعترف بأن هؤلاء قوم برعوا في فن الاختطاف سبيلاً للتكسب، والمؤسف أنه إذا قبض رجالنا على أحد من هؤلاء المجرمين قامت الحكومة اليونانية بمطالبتنا بتسليمه، وهكذا ينقذ المجرم من حبل المشنقة.

لم أكن أدهش لهيام الأرمن بحب الاستقلال، وخاصة بعد معرفة إثارة الدول الكبرى لهم بلا توقف، لكني أدهش لأن بعض أفراد تركيا الفتاة الذين هربوا إلى أوروبا وأصدروا هناك صحفاً ضدي كانوا يتعاونون مع أعضاء المنظمات والجمعيات الأرمنية، كما أدهش لأنهم كانوا يأخذون منهم أموالاً أيضاً. كانوا يقولون إنهم يريدون إنقاذ الدولة العثمانية من التمزق، ثم يتعاونون مع الذين يعملون على تفتيت الدولة ويتعاهدون معهم. تُرى إلى أي مدى كان يصل بهم الأمر لو لم أوقِع بينهم؟ هل قيام دولة أرمنية في بطن الأناضول شاهد إثبات على وطنيتهم؟!

أسجل هذا للاعتبار به ولمعرفة من يكون صديقاً لمن ناصبوني العداء. وبينما يبكي الوطن اليوم أجد التفكير فيهم أمراً يؤذيني ويغمني. إنهم لم يهدموا عبد الحميد. ها هم قد هدموا الدولة العثمانية!!

أنظر إلى تجلٍّ أكثر غرابة العثمانيون الجدد وتركيا الفتاة كانوا يؤازرون جميعهم الدول الكبرى التي ترغب في تمزيق أوصال الدولة العثمانية وتفتيتها. كان هؤلاء الشباب أمل الدول الكبرى!! لو نفذوا ما تشاءه هذه الدول فإن هذا خلاص الدولة العثمانية! وإذا لم تكن آذانهم صاغية لأقوالها فإن في هذا زوال الدولة العثمانية!!! وفي المرتين انهزمنا مع أننا نفذنا ما أرادته. فعلنا ما قالته هذه الدول فهل تفتحت بعد كل هذا أعين الذين يعيشون في آخر حفنة بقيت لنا من تراب الوطن؟ أرجو الله هذا.

كيف لم يفطنوا إلى أنهم أغرقوا بأيديهم بلداً عظيماً هائلاً روته دماء الأجداد؟ لا أجرِّم أحداً ولكن كانوا بأنفسهم يرون الإنجليز والفرنسيين والروس وحتى الألمان والنمسويون أي كل الدول الأورويبة الكبرى وجدت مصلحتها في تقسيم الدولة العثمانية وتفتيتها، كانوا أعداءها والمشاهد أن هذه الدول الكبرى ينهش بعضها في بعض لكنها سرعان ما تتفق وتتحالف إذا ما تعلق الأمر بمقاتلة العثمانيين. أما ما لا تتفق هذه الدول فيه فهو من سيحصل على نصيب أكبر من أراضي الدولة العثمانية. ألم يستطع شباب تركيا الفتاة فهم معنى مؤازرة هذه الدول لبعضها كما حدث في أفكار بعينها؟

قلت وسأقول شرحت وسأشرح مسألة هامة وهي ألم يكونوا يفكرون أن الدولة العثمانية دولة تجمع أمماً شتى، والمشروطية (الديمقراطية) في دولة كهذه موت للعنصر الأصلي في البلاد. هل في البرلمان الإنجليزي نائب هندي واحد أو إفريقي أو مصري؟ وهل في البرلمان الفرنسي نائب جزائري واحد؟ وهم يطالبون بوجود نواب من الروم والأرمن والبغار والصرب والعرب في البرلمان العثماني.

هؤلاء الذين أطلقوا على أنفسهم اسم تركيا الفتاة كانوا في الأصل ثلاثة أشخاص أو خمسة وهؤلاء عملوا ضدي عدة سنوات في أوروبا. تكلموا خططوا كتبوا. كل ذلك قبل أن يفكروا أن العمل ضدي معناه أيضاً العمل ضد الوطن. كانت صحفهم التي يصدرونها تأتي خفية إلى البلاد عن طريق البريد الأجنبي وتوزع بواسطة الأجانب. مضت أعوام ولم تحدث إثارة جدية هامة لهذا، لأنها لم تكن أعمالاً تنبع من أفكار جدية هامة.

وكما قلت من قبل إن الصحف التي صدرت في أوروبا ومصر (كانت مصر محتلة من إنجلترا في ذلك الوقت) بمختلف أسمائها ورجال الجمعية الذين يجوبون هذه البلاد لم يُخرجوا للبلاد كاتباً جاداً واحداً. ولكن محالف الماسونية رغم كل تعقبنا لهم جعلت من هؤلاء المتسكعين أعلاماً. عندما حرَّكوا الضباط من أعضاء الاتحاد والترقي، وتلك هي قصة تركيا الفتاة وجمعية الاتحاد والترقي.

سيقولون لي إنك تعلم كل هذا ومع ذلك لم تتصد له ولم تمنعه لماذا أغمضت عينيك عن خراب الدولة وانهيارها؟ حاشا. ليست المسألة مسألة إغماض عين لقد كنت يقظاً في كل لحظة لكني لم أستطيع منع هذا. كنت بمفردي وكان معهم كل عالَم العدو. لم تكن طبيعتي وظروفي تساعدني إلا بهذا القدر.

جمال الدين الأفغاني:

وقعت في يدي خطة أعدها في وزارة الخارجية الإنجليزية مهرج اسمه جمال الدين الأفغاني وإنجليزي يدعى بلنت قالا فيها بإقصاء الخلافة عن الأتراك. واقترحا على الإنجليز إعلان الشريف حسين أمير مكة خليفة على المسلمين. كنت أعرف جمال الدين الأفغاني عن قرب كان في مصر، وكان رجلاً خطراً اقترح علي ذات مرة وهو يدعي المهدية أن يثير جميع مسلمي آسيا الوسطى وكنت أعرف أنه غير قادر على هذا. وكان رجل الإنجليز ومن المحتمل جداً أن يكون الإنجليز أعدوا هذا الرجل لاختباري. رفضتُ فوراً فاتحد مع بلنت.


الصحف والرقابة على المنشورات:

(كانت الصحف الأجنبية عندما لا تعجبها السياسات العثمانية تقوم بحملة من التشويه والافتراء والكذب. وفي ذلك يذكر السلطان عبد الحميد أنهم اتهموا ناظر الداخلية ممدوح باشا بالرشوة والجهل والطمع ويطالبون السلطان عبد الحميد بعزله من منصبه وسبب ذلك أنه شكل لجان خاصة للحيلولة دون تجارة التوظيف، وقام السلطان عبد الحميد الثاني بمكافأة هذا الوزير رداً على الصحف الأجنبية، فيقول):

إن الرقابة أمر حيوي في البلاد العثمانية وقياس مؤسساتنا بمؤسسات بلاد الغرب هو قياس مع الفارق قد يكون السبب في تقبل النقد الصحفي عندهم هو انتشار الوعي الثقافي بين طبقات الشعب أما في بلادنا فالشعب لم يزل قليل المعرفة سريع الاغترار. فكما أن على الأبوين منع الكتب الضارة عن أولادهم فكذلك يتوجب على الدولة أن تمنع المنشورات والكتب من أن تؤدي إلى الإضرار بأفكار الشعب. فوصول الروايات الفرنسية المترجمة إلى متناول الحريم وإفسادها للعقول والأفكار هو أمر مؤسف غاية الأسف وكون مستوردي هذه الروايات فرنسيين أو روماً أو أرمن لا يغير من الأمر شيئاُ فهو قوم مفسدون حيثما وجدوا. لو نشرت هذه الروايات المفتقرة إلى الحقيقة دون حذف أو تغيير لتضاعفت افتراءات الأوروبيين علينا فكل هذه الأساب تجعلنا نستمر في فرض الرقابة على المطبوعات.

من الغريب أن يكون عدد الصحف التي تلتزم جانب الحق والصدق في مقالاتها وأخبارها قليلاً، والحقيقة أن حصول المراسلين على أخبار صحيحة ودقيقة من خلف الأستار والكواليس أمر صعب المنال. ولذلك يعمد هؤلاء إلى سوق الأكاذيب فيجدون فيها مبتغاهم.

من واجب كل عثماني أن يسعى إلى الحيلولة دون اطلاع الأجانب على الثغرات الخفية لدولتنا. لقد آن الأوان لأن نعرف بأن الأجانب غير مستعدين لتفهم مواقفنا.

الديمقراطية (المشروطية):

ماذا حدث بعد إعلان المشروطية هل انخفضت ديون الدولة؟ هل كثرت الطرق والموانئ والمدارس؟ هل أصبحت القوانين الآن أكثر تعقلاً ومنطقاً؟ هل ازدادت الحقوق الشخصية عما قبل؟ هل الأهالي الآن أكثر رفاهية؟ هل تناقصت الوفيات وزادت المواليد؟ هل أصبح الرأي العام العالمي بجانبنا الآن أكثر من ذي قبل؟ وهكذا عديد من الأسئلة، والتي إذا زادت فليس من رد إيجابي يمكن أن يُرد به عليها. وينبغي ألا يُظن أن فكري واقتناعي مُوَجه دائماً ضد الحكم الذي يعتمد على أصول المشروطية.

الدواء الناجح يصبح سماً زعافاً إذا كان في يد غير الأطباء، أو في يد من لا يعرفون أصول استعماله. وإني لجد آسف فالأحداث قد أظهرت وفي أقل مدة زمنية صدق كلامي.

أطلقوا علي في وقت من الأوقات لفظ المستبد ولم يخطر على بالي مطلقاً أن أمَسّ حتى قشة يمتلكها أحد الناس وذلك طوال مدة سلطنتي. أما هم فيستصدرون قراراً حكومياً لكي يأخذوا ما تبقى من دريهمات في يد سلطان سابق ثم يسمون هذا بالفكر المشروطي (الديمقراطي) وهذه هي الحرية والمساواة والعدالة التي أتوْا بها.

سياسة الانجليز في مصر:

يبذل الإنجليز كل جهد ممكن في سبيل الإساءة إلى سمعتنا في مصر، وها هم قد خدعوا المصريين بأفكارهم لدرجة أن البعض منهم يؤمن بأن طريق إنجلترا هو السبيل إلى الأمن والنجاة ويفضل القومية على الدين إنهم يظنون أن حضارتهم ستمتزج بحضارة الغرب دون أن يشعروا بأن هناك تضاداً بين الحضارة الإسلامية والحضارة النصرانية بحيث لا يمكن أبداً التوفيق بينهما. إني أقدر للخديوي وفاءه لكني أراه يوشك أن يكون من الكافرين تلقى العلم في جنيف ثم أتم دراسته في فيينا فلا بد أن يتعود بعادات الغرب. والانكليز يريدون أن يكون الخديوي خليفة على المسلمين بغية إضعاف شوكة الإسلام وتمكين حكمهم ولكن ليس هناك من مسلم يعتز بدينه يقبل أن يكون ذلك الخديوي خليفة على المسلمين. ولا يستغربن أحد أن يقوم الإنكليز بتنصيب اللورد كرومر إذا اقتضى الأمر خليفة على المسلمين.

لقد جاء إلى الجزيرة العربية في السنوات الأخيرة عدد كبير من الإنجليز حجتهم السياحة وهدفهم إجراء دراسات حول إنشاء خط حديدي يربط وادي النيل بخليج إيران حيث يمكنهم بهذه الطريقة تحديد مستقبل هذه المنطقة بأسرها.

علينا أن نعترف وبكل أسف بأن الإنكليز استطاعوا بدعايتهم المسمومة أن يبثوا بذور القومية والعصبية في بلادنا. وقد تحرك القوميون في الجزيرة العربية وفي ألبانيا وظهرت في سورية بوادر تحرك مماثل.

التحول من النصرانية إلى الإسلام:

إن عدد معتنقي الإسلام من الأوروبيين في تزايد مستمر، وقد بعث سفيرنا في باريس قائمة بأسماء ستة منهم وبعد مدة وردتنا من لندن قائمة بأسماء عدد كبير من الإنكليز فطلبت من سفرائنا عدم إرسال مثل هذه الطلبات إلينا بعد الآن وإفهام الناس هناك بأن استبدال دين بدين لا يحتاج إلى أي إجراء رسمي. إذ هم يظنون أن الأمر يتطلب شيئاً يشبه التعميد عند النصارى. فالإسلام هو الاستسلام التام لله، الأساس فيه الإيمان ويكفي المرء أن يقول معتقداً لا إله إلا الله محمد رسول الله. وقد عرف الإنسان ربه عن طريق الوحي فمن آمن به أسلم. فعلى سفرائنا أن يوضحوا هذا الأمر للأوروبيين وإذا احتاج الأمر لإعلامنا فليعلمونا في حالات استثنائية.

علمت أن السفير الأمريكي استغرب من عالم آثار أمريكي يقيم منذ مدة طويلة في اسكي شهر اهتداءه للإسلام، أما أنا فأستغرب استغراب هذا السفير وقد أسلم ملايين النصارى على مدى العصور. بعد أن عرفوا في هذا الدين أصالته وقداسته وعلينا أن نقدم للسيد السفير قائمة مطولة بأسماء الذين درسوا العقيدة الإسلامية فتركوا عقيدة الصليب ودخلوا في دين الله، وهناك عدد كبير من رجال الدولة العثمانية كانوا في السابق نصارى من البندقية وجنوه والبوسنة والمجر وألمانيا وانكلترا فمن لا يعرف أحمد باشا بونيفال وعمر باشا (جاتا البوسنوي) ومحمد علي باشا اسمه الأًصلي (ديتريوت) من ماياجورغ وصفر باشا وغيرهم من أحبوا الإسلام فنبذوا النصرانية ليقبلوا هذا الدين الحنيف. هذه هي الحال فلا يعجبن أحد من اهتداء عالم أمريكي يقيم في أسكي شهر ولا يظن أنه أمر نادر الوقوع.

التـنصير:

ما زال النصارى ينفقون الملايين في سبيل نشر النصرانية ببلاد الإسلام. وقد كان عليهم أن يفهموا من قبل بأن الحظ لن يحالفهم في هذه البلاد، فإذا صدف أن وافق المبشرون النصارى في اجتذاب البعض فتلك استثناءات قد تحصل بإغراءات مادية لصعلوك أو مجنون ولا يقبل النصرانية إلا ظاهراً. إن الإسلام يعتبر التثليث وهو أساس عقيدة النصارى انتقاصاً لعظمة الله سبحانه وحاشا لله قال تعالى: "لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم"، إن الله أعظم من أن يحتويه عقل الإنسان أما تشبيهه بأشياء محسوسة وتصويره بما يشبه البشر فليس في نظر الإنسان العاقل سوى الكفر بعينه.

يبرهن الأوروبيون بشتى الطرق أنهم مستمرون في صراعهم ضد الإسلام والمسلمين. يدّعون الرقي والحضارة والثقافة وهم أهل الأساطير والخرافات ومن يلق نظرة في التاريخ يعرف أيهم أرقى فكرياً المسلمون أم النصارى. والأوروبيون المحايدون يثنون على روح الشهامة والعدل والرجولة والوفاء والفروسية لدى محاربينا في القرون الوسطى وما بعدها، أما القساوسة المتعصبون فيدعون الناس إلى مناصبة العداء للمسلمين يتهموننا بالظلم والوحشية لينسى الناس الفظائع التي ارتكبتها الحملات الصليبية. وقد أباحوا لأنفسهم صنوف الأكاذيب ليستفزوا شعوبهم ضد المسلمين، ولا بأس عندهم بالخيانة والغدر إذا كانت الخيانة والغدر تستنهض الأمم المعادية للإسلام. لم يكن هناك أي مبرر لإراقة الدماء من الجانبين من أجل بيت المقدس. لقد سمح المسلمون للحجاج النصارى بزيارة الأماكن المقدسة في كل وقت. إن مسجد عمر هو من المعابد الإسلامية المقدسة. أما القدس فهي المدينة المقدسة الثالثة بعد مكة والمدينة وهي محاطة من جميع جهاتها بالمسلمين، فليقل النصارى ما يشاؤون أما الأراضي المقدسة فنحن أًصحابها.

الرق:

عجباً للأوروبيون كم يجهلون أعرافنا وقوانيننا، إنهم عندما يتكلمون عن الرق في الشرق يتصورون الحالة المحزنة التي يعيش فيها الأرقاء في أمريكا مع أننا لا نجوّز تسمية العلاقة الحميمة بين السيد والخادم عندنا بأنها رق. فالقرآن الكريم يأمرنا بمعاملة الخدم معاملة حسنة والواقع أن الخدم تبع لسادتهم حياتهم محدودة لكن قوانيننا الصارمة تحول بين السيد والمعاملة السيئة للخادم. وليس هناك رق في امبراطوريتنا بمعناه الحقيقي ولا شك أن الجواري عندنا أسعد حالاً من الخادمات الأوروبيات إنهن يرتبطن بالبيت الذي يعشن فيه تحمي حقوقهن الأعراف والعادات المتبعة.

وينظر البعض إلى تجارة الأسرى نظرة اشمئزاز مع أن الأمر عبارة عن بيع وشراء حسب الأصول، وتوفير أناس يخدمون في البيوت خدمات طويلة الأجل. ويُدفع قسم من قيمة الشراء للتاجر والقسم الآخر للأسير أو لأهله. وبهذه الوسيلة يجد كثير من الأطفال الذين يعيشون في الأزقة تحت رحمة الجوع والمرض يجدون بيتاً دافئاً ينعمون فيه بالحياة ويعاملون فيه أفراداً في أسرة واحدة، وعندما يكبرون يعمل الذكور كمساعدين لسادتهم في أعمالهم أما الإناث فيتزوجن ويصرن أمهات لأولاد سادتهن.

الآغاوات:

فاجأتني طلبات بعض الأوروبيين القيام بالخدمة في قسم الحريم في امبراطوريتنا. فقد تقدم في أسبوع واحد فقط ثلاثة رجال أحدهم موسيقي من باريس والثاني صيدلي ألماني أما الثالث فتاجر سكسوني. إن تضحية هؤلاء بجزء من عقيدتهم ثم بعضو من أجسادهم إن دلت على شيء فإنما تدل على الحالة النفسية السيئة التي هم فيها. لا شك أنهم لا يعرفون الحياة الأليمة التي يحياها آغا الحريم، ورغبتي القديمة في القضاء على هذه العادة البربرية.

ينبغي الإِشفاق على هؤلاء التعساء الذين قذفتهم أطماع ذويهم في هذا الشقاء وهم في عمر الورود. لقد أخبرني طبيبي ماوروكيني أن 70% من الذين تجرى لهم العملية الجراحية من هؤلاء يموتون.

أعتقد أن الرجال المسنين العاجزين عن القدرة الجنسية هم خير من يقوم بخدمة الحريم.

وصفه بالبخل:

أعلم أن بعض الناس ينعتونني بالشح، فلا أحتد لهذا النعت بل أعتبره مدحاً لي. أعرف كيف أنظم حساباتي ولا أحب أن ألقي مالي هنا وهناك إسرافاً، تعلمت الأرقام وأنا في السنوات الأولى من عمري. شهدت حياة البذخ التي كان يعيشها عمي، وشاهدت عن قرب النتائج المؤسفة لهذا التبذير. أليس الإسراف هو الذي أوصل امبراطوريتنا إلى ما وراء الإفلاس؟ لم يحدث أن صرفت أموالاً على لهو أو على أمور يمكن أن تجر البلاد إلى ضائقة مالية، كما حدث عند كثير من الحكام. إنني مدين بحالتي المادية الجيدة للمحاسبة الدقيقة والاستثمار المعقول.

الحقيقة أن تكاليف القصر كبيرة، لكن البعض يبالغ كثيراً في هذه التكاليف. إننا إذا أخذنا في اعتبارنا كثيراً من العوائل التي تعيش على حسابنا لأمكننا أن نقول بأنني أعيش بمبالغ أقل بكثير من معظم حكام هذا العصر. يتهمني أعدائي بجمع ثروة طائلة والحقيقة أنني جمعت مبلغاً كبيراُ بفضل الاستثمار الجيد، ووضعته في الخارج في مكان أمين جداً. وأعتقد أن هذا التصرف صحيح إذ ليس في استانبول مصرف يمكن الاعتماد عليه حالياً، ولا داعي للاستغراب فكل حاكم يعمل ما عملته، فإذا احتاجت خزينة الدولة إلى دعم كما حدث أيام الحرب مع اليونان سحبت هذه الأموال من الخارج ودعمت به الخزينة.

المدارس الأجنبية في بلاد المسلمين:

إن المدارس الخاصة تشكل خطراً كبيراً على بلادنا، وقد كان خطؤنا جسيماً إذ سمحنا لكل دولة في كل زمان ومكان بإنشاء المدارس التي يرغبونها. والآن نجني ضرر ما زرعنا سمحنا لهم بفتح هذه المدارس فقاموا يعلمون الطلاب أفكاراً معادية لبلادنا. فسأحاسب وزير المعارف على إهماله وقد يكون السبب في هذا الإهمال افتقاره إلى جرأة التصدي أينتظر هذا الوزير أن أقوم شخصياً بهذا العمل، الحقيقة أن التصدي لهذه المدارس ليس بالأمر الهين، إذ يظهر أمامنا قنصل دولة أو سفيرها فيحميها من أن تطالها أيدينا.

إن من يملك شيئاً من رجاحة العقل لا يعادي العلم ولا يمنع أي شيء جديد، شرط أن يكون علماً نافعاً أما العلم الضار فأنا أعاديه إلى آخر نفس في حياتي.

إن التطور لا يمكن أن يحدث تحت تأثيرات وضغوط خارجية، فلا بد أن يكون تطوراً نابعاً من صميم الواقع بشكل طبيعي وباتجاه صحيح. والدولة العثمانية بسبب توسعها المفاجئ والسريع أشبه ما تكون بشاب ضعيف البنية لا تقدر بنيته على ممارسة حركات سريعة. وتكون هذه الحركات وبالاً عليها إن هي مارستها، والتجديد الذي يطالبون به تحت اسم الإصلاح سيكون سبباً في اضمحلالنا. ترى لماذا يوصي أعداؤنا الذين عاهدوا الشيطان بهذه الوصية بالذات؟ لا شك أنهم يعلمون علم اليقين أن الإصلاح هو الداء وليس الدواء، وأنه كفيل بالقضاء على هذه الإمبراطورية. يتظاهرون بالحزن والأسى على حالتنا المتأخرة ويسعون عن خبث إلى القيام بأي عمل كان لما يسمونه برفع مستوانا، إن الدول الأوروبية تحتاج إلى إصلاحات لا حصر لها. 

وستأتي الأجيال القادمة بعدنا فتأخذ الجانب الحسن من الحضارة الغربية فتصقله بمفاهيم شرقية وتصنع منهما حضارة جديدة متكاملة.

والأوروبيون يتوهمون أن السبيل الوحيد في الخلاص هو الأخذ بحضارتهم جملة وتفصيلا. مع أن أكثر رجال العلم يعترفون في أن الثقافة العثمانية الإسلامية جديرة بالهيمنة كالثقافة الغربية على أقل تقدير، ولا شك أن طراز التطور عندنا هو غير ما عند الأوروبيين. علينا أن نتطور تحت ظروف طبيعية ومن تلقاء أنفسنا وأن نستقيد من الظروف الخارجية في حالات خاصة.

من الظلم الفادح أن نتهم بمعاداة كل شيء جديد يأتي من الغرب. يجب ألا ننسى أن في التأني السلامة والنجاة، وفي العجلة الندامة.

إن طراز التفكير عند الأوروبيين وعند النصارى طراز غريب ملئ بالتناقضات فلا يستطيع الإنسان أن يحدد رأيه فيهم، فيوماً تراهم عريقين صادقين ويوماً سفلة ظالمين، كتابهم المقدس يأمرهم بالمعروف فلا يسمعون إنهم أناس لا يؤمنون بمبدأ ولا يدينون بدين. يستصغرون رب العالمين تعالى الله عما يقولون لقد جاءنا أناس منهم بصفة أساتذة أفاضل فأصابتنا الدهشة عندما عرفناهم وعرفنا دناءتهم. إن مفاهيم الحياة عندهم تغاير مفاهيمنا، والبون بيننا شاسع والهوة سحيقة كيف يمكننا أن نفكر في التعاون معهم في مثل هذه الظروف؟

إن الأفكار المستوردة من أوروبا تشكل خطراً كبيراً علينا وكارثة أليمة أرى من حولي المسلمين فأجدهم فطريين سعداء فلا أملك إلا أن أقاوم هذه الأفكار الأوروبية بكل ما أوتيت من قوة، إنها سموم تخرب العقول والقلوب.

ولا بد أن نأسف بحال شبابنا الذين أصيبوا بالمرض الأوروبي وسيكون لهؤلاء الشباب تأثير سيء على مواطنيهم وإخوتهم في الدين. إن الإسلام لا يعادي التطور والرقي لكنه يرفض التطور المستند إلى مبادئ غريبة عنه، فلا بد أن تكون مبادئ تطورنا من صميمنا وواقعنا.

غريب أن هؤلاء الذين يحملون لي كل هذا العداء درسوا كلهم تقريباً في المدارس التي افتتحتها أنا. ومع ذلك وبكل أسف لا يخجلون أن يطلقوا علي لقب عدو العقل والعلم.

لم أخش مطلقاً في يوم من الأيام من رجل متعلم، إنما أتجنب هؤلاء الحمقى الذين يعتبرون أنفسهم علماء بعد قراءتهم بعض الكتب. وهذه الفئة من الوالهين بالغرب الذي تفتنهم معامل الأمم الأوروبية وأزياؤها لا تلقى مني أدنى عناية.

لست نادماً على هذا، ولكن هل يمكن أن يكون عدواً للعلم والعقل سلطان بذل كل ما في وسعه قرابة الثلاثين عاماً لكي يرى في كل قرية مسجداً وبجانب المسجد مدرسة؟

فكما أني أراعي ألا أكون تحت سيطرة الوهم، فكذلك أيضاً أراعي ألا أكون غافلاً. ذلك لأن الغفلة تؤدي إلى أذى كبير، يفوق ما يؤدي إليه الوهم من أذى. بعض الذين علمتهم في مدارسي وأرسلتهم إلى أوروبا وكفلت لهم تعليمهم في بلاد العالم ظهروا بألا قابلية لهم ولا استعداد. كانوا يعودون إلى البلاد بأفكار تضرها، ذلك لأنهم لم يستطيعوا معرفة ما هو ضروري مما شاهدوه في أوروبا ورأوه. لا أستطيع مجازاتهم لأنهم أعدوا أنفسهم إعداداً خاطئاً، ولكن لم يكن من حقي أن أصرح لهم بإعداد الآخرين إعداداً خاطئاً.

الدراسة في أوروبا:

(كان يذهب الظباط لتلقي العلوم العسكرية في ألمانيا وكان المسؤولين الألمان يثنون على ذلك. لكن السلطان عبد الحميد الثاني ذكر أن ما يتعلمونه هو شرب الخمر وعادات منافية للأخلاق ثم يعودون وهم منتفخون ويسخرون من العادات والتقاليد).

بدأ بعض الشباب الذين اكتسوا قشور الحضارة الأوروبية بإلقاء خطب في الدعوة إلى حب الوطن لكن حب الوطن في بلادنا العثمانية يجب أن يأتي في المرتبة الثانية بعد حب الدين الذي يحتل المرتبة الأولى أليس الكاثوليك في أوروبا يقدمون الكنيسة الكاثوليكية والبابا على الوطن.. بذل الانجليز جهوداً كبيرة في الدعاية للإقليمية في البلاد الإسلامية بغية إضعاف هيبتنا وقد لقيت هذه الدعاية قدراً من الرواج فخدع بها كثير من المصريين وبدؤوا بالانتقاص من الإسلام ومن خليفة المسلمين.

علينا أن نصرف النظر عن إرسال طلاب من الطبقات العليا إلى أوروبا وبقائهم هناك سنين عديدة وأن نرسل بدلاً عنهم طلاباً من سائر الطبقات لمدد قصيرة، ليطلعوا هناك في فرنسا أو ألمانيا على الحضارة الأوروبية ولن يجدوا الوقت الكافي إلا لتعلم الأمور النافعة، فيتسع أفقهم الفكري فيعودون إلى بلادهم سالمين غانمين، دون أن يجلبوا معهم سموم تلك الحضارة.

بعض الشباب الذي كان يذهب إلى أوروبا كان قبل أن يرى ما يحدث في المختبرات العلمية هناك كان يرى السيدات تراقص الرجال وكان هذا الشباب يُعجب بالأوروبيين وهم يشربون الخمر أيضاً وعند عودتهم إلى بلادهم يوصون بالأخذ بكل ذلك السفه مدعين أن قمة الحضارة الأوروبية تتمثل في مثل هذه الأمور، وكنت أقول إن هذا خطأ فكانوا يتهمون تفكيري بأنه عنكبوتي. كذلك بعض الشبان الذين أرسلتهم إلى أوروبا درسوا وتعلموا الثورة الفرنسية ووجهوا اهتمامهم بها، دون أن يدرسوا أسباب انفجار هذه الثورة. وهؤلاء كانوا عند عودتهم إلى البلاد يعتبرون أن حب الوطن هو الدعوة لإثارة الشعب والعمل على تمرده. ولم أكن أسمح بهذا. كانوا في ذلك الوقت يهاجمونني بمثل ما كان يهاجمني به أعداء البلاد الخارجيين من وصفهم لي بصفة السلطان الأحمر وكنت أمنع انتشار هذه الأفكار التي أتوا لنا بها من الخارج. 

وكما يحمي البستاني أزهاره من الحشرات الضارة حميت أنا أيضاً بلادي من الأفكار التافهة ولم أسمح لها بقرص دولتي. عاملت هؤلاء الشبان وهم أصحاب أفكار خاطئة عاملتهم بشفقة ولم أعاملهم بظلم. ولقد حاولت مع الكثير جداً منهم كل على حدة أن أرشدهم إلى الطريق القويم وعملت على تحويل نيران حماسة شبابهم إلى خير البلاد. نجحت مع بعضهم وأخفقت مع البعض الآخر. حلال عليهم ما بذلته من جهد. لم أستخدم همتي هذه في سبيل شراء ضمائرهم لكني استخدمته لتنوير ضمائرهم.

إنني أتحدث بصراحة تامة في هذه الأيام التي ارتبطت فيها بالدنيا برباط النفس، وبالآخرة برباط النفيس. وأقول ليس من أحد من الذين تملكوا الدولة من بعدي عرفوا احترام الفكر قدر ما عرفته. سيطروا على الدولة ورددوا كلمة الحرية وبمجرد شروعهم في الحكم ظهر أنهم لا يريدون الحرية إلا لأنفسهم فقط. إن الحرية التي فهموها هي التي تبدو بأنها حرية السب فيَّ وشتمي والتصفيق لهم ويدخل ضمن هذا أيضاً حرية قتل الكاتب المُعارض لهم فوق الكوبري. ليحم الله بلادي من هذه الحريات المختلفة.

الآثار والبحث عن البترول:

لما قال الروس لا للاقتراح الإنجليزي الرامي إلى تقسيم دولتنا، بدأ الانجليز يتقربون مني بشكل لم أستطع في البداية فهمه، استطعت معرفته بعد عدة أشهر. ذات يوم قابلني السفير الإنجليزي في إسطنبول وتحدث طويلاً عن أن الأناضول وسوريا والحجاز تعد مهد حضارات التاريخ، وسألني إن كنت فكرت في مشروع للتنقيب عن الآثار في هذه المناطق، فربما يمكن العثور على كنوز لو قامت مشاريع للتنقيب على هذه الآثار هناك، وقال إن التماثيل الصغيرة والقلل والأواني المكسورة العتيقة والنقود القديمة التي ستُستخرج من تحت الأرض لها قيمة الكنز. وإن النظر فيها ربما يكون من شأنه تغيير التاريخ، وسيكون بواسطتها الحصول على معلومات علمية قيمة كثيرة. وبعد أن قال إن قراءة الخط المصري القديم قدم للحضارة العالمية مكسباً عظيماً جداً، أضاف قائلاً إن الدولة العثمانية لو وجدت أن عمليات التنقيب عن الآثار في هذه المناطق تكلفها الكثير فإن الحكومة الإنجليزية مستعدة لتقديم مختلف المعونات بكل سرور، وسترسل رجالها على وجه السرعة وسيبدؤون في الحفر وستصرف لهم الحكومة الإنجليزية مصاريفهم. وفوق هذا فإن ما يعثرون عليه من الآثار التاريخية هناك سيتركونه لنا دون مقابل.

ولما كان هدفي إقامة علاقات وطيدة مع إنجلترا ولم أكن أعرف ما ينطوي عليه هذا الاقتراح قبلت واستدعيت الصدر الأعظم (كبار الوزراء) خليل رفعت باشا على الفور، وشرحت له الاقتراحات الإنجليزية ونبهت عليه بمتابعة أعمال هذه الوفود القادمة.

والحقيقة أن الإنجليز أرسلوا مجموعة من علمائهم إلى إسطنبول دونما تأخير كثير. قابلتهم جميعاً في لقاء عام معهم وتمنيت لهم النجاح وأقمت لإكرامهم في ذلك المساء مأدبة عشاء دعوته إليها أيضاً سفراء الدول الأخرى وكان يبدو على السفير الروسي بشكل خاص وبوضوح أنه غير ممتن من هذا التصريح وكان ينصت باهتمام وهو يبتسم بشكل واضح إلى حديثي عندما قلت له فيه إن الإنجليز طلبوا السماح لهم بالتنقيب عن الآثار خدمة للتاريخ والحضارة.

وبدأ فريق من العلماء تنقيبهم في منطقة قيصرية في الأناضول وفريق آخر في الموصل وفريق ثالث في منطقة قريبة من بغداد. كانوا ينقبون بمساعدة العمال المحليين وكنا أيضاً قادرين على متابعة أعمالهم ولم يظهر شيء من هذه الحفريات غير بضعة أوان مكسورة وقلل وتماثيل صغيرة وتوابيت ومقابر وقام الإنجليز بتسليمنا هذه الأشياء حتى النقود النحاسية القديمة. كان السفير الإنجليزي يطلب كثيراً مقابلتي والتردد علي للإدلاء بمعلومات عن هذه الحفريات وكنا نتحادث وكت أقدر جميع هذه الفرص وكنت أمهد الأرض للاتفاق الذي فكرت في عمله. كنت أريد ألا أقدم أنا هذا الاقتراح ولكني كنت أريد أن يقدمه الإنجليز بأنفسهم إليّ، وبذلك يكون الاقتراح في ذلك الوقت اقتراحهم هم وإذا وجدته مناسباً وافقت عليه وإن لم أجده كذلك كنت سأرفضه. وهكذا كنت أحاول اقتطاف الأفضل.

حدث في هذه الأثناء شيء لم أستطع فهمه أيضاً. جاءني السفير الإنجليزي ذات يوم وهو متحمس وقدَّم إلي سيفاً مرصعاً عثر عليه في إحدى الحفريات بجانب الموصل. كان السيف مكسوراً لكن يده كانت مرصعة بكثير من الأحجار الكريمة. وقال السفير إن هذا السيف سقط على الأرض إثناء إحدى الزلازل فذهب جزء منه في أعماق بعيدة وعُثر على الجزء المتبقي منه ضمن الحفريات، شكرت السفير وأنعمت عليه ولكن لم تكن مخابراتي على علم بسيف كهذا. إذاً فتفسير الأمر على شكلين الأول أن مخابراتنا تجهل هذا الأمر، والثاني أن السفير ربما لعب علي لعبة لا أعرفها. عرضت السيف على بعض التجار من السوق من هؤلاء الذين يفهمون في هذه المسائل، فقالوا إن هذا السيف ليس قديماً ولكن أُدخِلت عليه بعض التعديلات ليبدو كأنه قديم.

ازداد اهتمامي جداً بالأمر لكني لم أفصح لأحد بشئ من هذا الاهتمام، ثم علمت من الأخبار التي ترد إليّ أن بعثتي التنقيب عن الآثار في كل من الموصل وبغداد قد تركتا أعمالهما على وجه الأرض وبدأتا تحفران آباراً. في ذلك الوقت وَضحت أهدافهم كانوا يريدون مني أن أصدقهم وهكذا كانوا يريدون أن يحصلوا على إمكانية العمل براحة أكثر، وهذا السيف الذي قُدِّم لي على أنه قديم ومزين بالأحجار الكريمة كان من أجل أن أزيد ثقتي بهم ولم يكن ما يبحثون عنه أواني مكسورة أو تماثيل وإنما كان البترول.

منعت الانجليز من استخراج بترول الحجاز وسوريا. كنت أعرف من قبل أنه من أجل العثور على البترول في الأفلاق (رومانيا) يقوم المختصون بحفر الآبار وعن طريقها يبحثون عنه. بعد فترة جاءني السفير الإنجليزي بحجة أن يقول لي خبراً آخر. قال لي إن قسماً كبيراً من أراضي سوريا والحجاز عبارة عن صحراء والمعاناة شديدة في هذه الأماكن من العطش لعدم وجود الماء ولهذا السبب فإنه يتعذَّر تعمير هذه المناطق ولذا فإن الحكومة الإنجليزية إذا أصدرتُ موافقتي مستعدة باسم الإنسانية أن تفتح آباراً هناك ولكن لهذا شروط إذا تم العثور على الماء وتكونت الواحات فإنهم سيتركون استخدام الماء الذي سيخرج للأهالي ولكنهم في هذه الحالة يصبحون أصحاب الماء. إن مسألة الاتفاق ذاته لا يسير كما أريد.

رفضت الاقتراح ولم أكتف بهذا. بل أغلقت رسمياً الآبار التي فتحوها بالموصل وبغداد. تأثر الإنجليز أبلغ التأثر بهذا وغضبوا وتركوا الآبار كما هي ولكنهم بدأوا يأخذون على عاتقهم التحرش بمسألة الخلافة متخذين من جمال الدين الأفغاني وسيلة لمآربهم. كما كانوا يريدون الوصول إلى غايتهم باحتواء أمير الحجاز.

منعت البترول عن الإنجليز فأثاروا مسألة الخلافة العربية. في مقابل هذا قمت بإرسال قافلة كبيرة نوعاً ما من الدراويش إلى مسلمي الهند وقابل الإنجليز هذا الموقف بإثارة نكبة كريت وذهبوا لأكثر من هذا بأن حاولوا إقناع روسيا وفرنسا بإسقاطي من على العرش ورفض الروس بلهجة حادة هذه الاقتراح الإنجليزي، لأن إنجلترا كانت ترتب في روسيا حركات تمرد لإجبار القيصر على قبول الحكم الدستوري كما فعلتْ تماماً مع الدول العثمانية. وفي الوقت الذي وقعنا فيه مع إنجلترا في الصراع بدأت ألمانيا في مد يد الصداقة إلينا وأيدتنا صراحة في قضية كريت واختلفتُ في ذلك مع الدول الكبرى الأخرى. إن انتصار جيشنا في اليونان قد نبه الألمان وفتح أعينهم فاقترب مني القيصر الألماني ويلهلم لدفع التحالف الفرنسي الإنجليزي الروسي. أما أنا فلكي أهدد الإنجليز بأني أستطع فتح طريق الهند للجيوش الألمانية اقتربت بسرعة من الألمان وإن كانت أفكارنا في الأصل مختلفة عن بعضها البعض تماماَ.

في أثناء هذه الزوبعة وصل القيصل ويلهلم إلى إسطنبول فأعددت له استقبالاً فخماً وألقى القيصر بدوره خطباً رنانة أشاد فيها بكرم ضيافتنا، ولم يتحرج من القول بأنه صديق ثلاثمائة مليون مسلم يعيشون في أرجاء العالم المتفرقة، وبعث من دمشق بخطاب إلى قيصر روسيا قال له فيه إن الدولة العثمانية ليست على وشك الموت وإنما هي دولة تمتلئ حيوية. كما لم يتحرج القيصر الألماني أيضاً من تهديد قيصر روسيا بقوله ابتعد عن مس شرف المسلمين وخليفتهم.

ليس هذا أصل ما أريد شرحه، وإنما هذا التصرف وهذا السلوك من جانب القيصر جعلاني أشعر بأحاسيس طيبة كثيرة، وتصرفت معه تصرف الأصدقاء إلى أخر مدى. جاء مع الامبراطور الألماني إلى بلادنا بعض العلماء الألمان، من بينهم من كان يشتغل بالحفريات تماماً مثل الإنجليز وكانوا يريدون البحث عن الآثار القديمة حول الموصل. سمحت لهم وحيث إني سمعت أنهم شموا رائحة البترول الذي كانت تنقب عنه البعثات الإنجليزية فإني أرسلت أحد مرافقي باسم مستعار ونبهت عليه بمتابعة الأمر من مكان الحفائر. مضى على هذا وقت قصير جداً وكان الإمبراطور ما يزال ضيفاً في بلادنا وإذا بي أتلقى تقريراً من صلاح الدين أفندي يقول إن البعثة الألمانية تفعل ما فعله الإنجليز تماماً تنقب وتفتح الآبار. أعترف بأني ابتأست بهذا الخداع إذ لو كان الامبراطور الألماني قد جاء لاقتراح البحث عن البترول لأعطيته الموافقة على أساس من بعض الشروط، إذ إن هذا البحث يهم بلادي أيضاً. أما أن يكون الأمر إرسال جواسيس يبحثون عن البترول بحجة البحث عن الآثار القديمة فإنه يُفصح بوضوح عن نظرة الألمان للعثمانيين.

اقترح تحسين باشا أمين البلاط السلطاني أن أشير إلى هذه المسألة للامبراطور لكني رفضت وقلت نتركهم يبحثون فإذا ما اكتشفوه فإنهم لن يضعوه في جيوبهم، نعطيهم أواني الصلصال المكسورة ونأخذ نحن البترول وذلك لأنهم لم يحصلوا مني في الأصل على إذن للبترول. مرافقي صلاح الدين أفندي كان رجلاً يفهم هذه المسائل جيداً استدعيته وأرسلته إلى أمريكا، لأن أمريكا متقدمة جداً في هذه الأمور في تلك السنوات وهذا أيضاً يساعد على إقامة علاقات طيبة مع هذه الدولة، وفي نفس الوقت نستطيع أن نعرف إن كان في بلادنا بترول أم لا. وللأسف لم تسفر محاولتي هذه عن شيء فالشركات التي اتصل بها صلاح أفندي في أمريكا لم تبدِ اهتماماً بالأمر وعاد بعد عام صفر اليدين. وقال لي صلاح أفندي عند عودته إن الأمريكيين يعتقدون أنهم يستخرجون من البترول ما يكفي احتياج العالم وأنهم لا يميلون إلى هذا الأمر الخاص بالتنقيب عن بترول البلاد العثمانية بحجة أن وجود آبار جديدة من شأنه أن يخفض أسعار البترول. لكننا أيضاً شممنا رائحة البترول بعد الإنجليز والألمان ولذلك طلبت من اليابان وفداً متخصصاً في التنقيب عن البترول ووافقت اليابان على طلبي. لا أعرف بقية هذا الموضوع لأنني أُبعدت عن العرش بعد قليل.

سياسة السلطان عبد الحميد الثاني السرية للحفاظ على الدولة العثمانية:

منذ أربعين عاماً وأنا أنتظر أن تشتبك الدول الكبرى مع بعضها البعض. كان هذا كل أملي كنت أرى أن سعادة الدولة العثمانية مرتبطة بهذا. وجاء ذلك اليوم الذي كنت أنتظره، ولكن... هيهات فقد أبعدوني عن العرض، وابتعد الذين حكموا البلاد بعدي عن العقل والتبصر. الفرصة العظيمة التي ظللت أربعين عاماً في انتظارها ولَّت وأفلتت من يد الدولة العثمانية إلى الأبد. جاهدت لكي لا يعزلوني عن العرش طوال ثلاثين عاماً، وجهادي هذا كان من أجل هذه الفرصة. حبست الأسطول في الخليج ولم أخرجه ولو للتدريب، وحبسي له كان من أجل هذه الفرصة. تجاهلت الحرب اليونانية لكي لا أدع للإنجليز منفذاً للاستيلاء على كريت، وتجاهلي هذا كان من أجل هذه الفرصة. بمعنى آخر إن كل مجهودي قرابة ثلاثين عاماً بصوابه وخطئه إنما كان من أجل هذه الفرصة. وحفظت هذا السر في نفسي أربعين عاماً. وسأوضحه لأحفادي لكي يعرفوني لم أُفاتح فيه أحداً حتى مع أكثر صدوري العظام ثقة لأني تعلمت بالتجارب أن شيئاً يعرفه اثنان يخرج عن كونه سراً. ولذلك كان من ألزم الأمور ألا يعرف مقصدي هذا أحد، وألا تحس به الدول الأجنبية. كان تقديري أن استخدام العثمانيين لفرصة كهذه في وقتها وبتبصر كفيل بأن ينقذهم فيعيدون لدولتهم مكانتها في مصاف الدول العظمى. ولم أكن أستطيع الوقوف أمام هذه القوى بمفردي. فطاقاتنا لم تكن تكفي الشئ الوحيد الذي كنت أستطيع عمله هو أن أُفيد من التنافس بين هذه القوى. هذه الإفادة كانت عبارة عن توزيع الأمل في لقمة كبيرة بعض الشئ على كل واحد منها والإيقاع بين كل واحدة وأخرى. لم تكن لدينا قوة تساعدنا على أن نعيش ونقاوم بأنفسنا قط. إذاً فلو حدث تصدع في صفوف أعدائنا المتوحدين من أجل تمزيقنا إلى أجزاء ولو أمكننا أن نصبح قوة لا تتراجع عن جزء من أجزاء البلاد لأصبح من الممكن أن نكون مرة أخرى أصحاب كلمة مسموعة في العالم. كان الواضح أن التنافس بين الدول الكبرى سيجرها أخيراً إلى التصارع والتصادم فيما بينها. وعلى هذا فإن الدولة العثمانية أمام تصارع وتصادم كهذا تصبح بعيدة عن أخطار التمزق والتقسيم، ويوم التصادم يتوضح قيمتها بين الدول. هذا هو سر سياستي التي استمرت 33 عاماً.

ماذا فعل الثوار بعد عزل السلطان عبد الحميد الثاني:

مضى على هذا منذ تدخلهم في الحكم عشر سنوات فهل استطاعوا عمل ثلث ما عملته أثناء مدة سلطنتي؟! دعنا من الثلث فالثلث كثير، فلنقل العشر فهل استطاعوه؟!!

عندما توليت الحكم كانت ديوننا العمومية تقرب من ثلاثمائة مليون ليرة، وُفقت إلى تخفيضها إلى ثلاثين مليون ليرة أي إلى العشر، وذلك بعد دفع ما تطلبته حربان كبيرتان وسحق بعض تمردات داخلية. أما ناظم بك ورفاقة فقد رفعوا هذا الرقم بعد تولي الاتحاد والترقي الحكم بعدي من ثلاثين مليون ليرة حيث كان حينما تركت الحكم إلى أربعمائة مليون ليرة يعني إلى ثلاثة عشر أمثاله!!

ولم يُعرف قط ثائر استطاع أن يحقق في البناء ما حققه في الهدم!

الحرب أكبر آفة تصيب الأمم، حتى المنتصرون فيها يرهقون أممهم بها.

لن يقدروني حق قدري إلا بعد موتي. والذين أعلنوا أني أعظم مناصر للحكم الاستبدادي، وأني أكبر مستبد في العالم، لا شك أنهم سيعترفون بالحقيقة بعد موتي، وسيتراجعون عن موقفهم تجاهي.

لم يهزني شيء في حياتي هزاً ضخماً قدر شخص يرتفع إلى مقام قيادة الجيش أو إلى مقام الصدارة العظمى ويقبل نقوداً من دولة أجنبية كافرة.

لا بد للتاريخ يوماً أن يُفصح عن ماهية الذين سموا أنفسهم "الأتراك الشبان" أو "تركيا الفتاة" وعن ماسونيتهم. استطعت أن أعرف من تحقيقاتي أن كلهم تقريباً من الماسون وأنهم منتسبون إلى المحفل الماسوني الإنجليزي، وكانوا يتلقون معونة مادية من هذا المحفل. ولا بد للتاريخ أن يُفصح عن هذه المعونات وهل كانت معونات إنسانية أم سياسية؟

التاريخ:

تُرى هل يعتقد هؤلاء الذين يحيطونني بهذا القدر من الحصار والتضييق ويرتجفون من مذكراتي أنهم يستطيعون تغيير كل شيء حسبما يودون؟ ظل السلطان عبد الحميد أمام أعين الدنيا ثلاثاً وثلاثين عاماً ويعلم كل الناس ماذا عمل وماذا سوى. إن كل شخص من حقه أن يُقَوِّم هذا العهد من وجهة نظره. أكتب هذا تسهيلاً للتاريخ، وليس لأنني سأفهم خطأ. فلا أنا ولا فهم بمستطيعين تغيير التاريخ فالتاريخ سيصدر حكمه لكن مخاوفهم هذه ستؤدي إلى الحكم ضدهم سريعاً بل من اليوم. اللهم لا تؤاخذ الناس بضمائرهم ففي هذا أكبر عقاب.

وكان آخر ما كتبه السلطان عبد الحميد الثاني في مذكراته:

خَرَرْتُ لله ساجداً للرحمن وهو الشيء الوحيد الذي أستطيع عمله في هذا اليأس الذي نتج عن شعوري بأن الدولة التي أقامها أجدادي تعيش حتى اليوم مثلي تماماً أيامها الأخيرة. سجدت والدموع تسيل دماً من مآقيّ حتى الصباح أحترق قائلاً ليس لنا إلا الإيمان بك يا ربي.

فلقد كانت جنودنا على كل الحدود ممزقة مبعثرة بين انسحاب وهزيمة ولا يستطيع خلاصنا إلا الله... وإذا لم تنقذنا فلا تريني اللهم أياماً أسوأ من هذا الموت. وهذا آخر توسلاتي. اهـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق